الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة قراءة لمعرض الفنّانة فاطمة الزّهراء الحاجّي: حين تنفتح طبقات من الماضي نحو نوافذ من الحاضر والمستقبل

نشر في  28 ديسمبر 2025  (11:20)

 بقلم الدّكتورة: ياسمين الحضري

افتتح معرض "Palimpseste intérieur" برواق العرض "Hors cadre" يوم 15 نوفمبر 2025 ليتواصل إلى حدود 22 من نفس الشهر. هو ليس مجرّد معرض يعرض أعمالا فنيّة للفنّانة التشكيليّة "فاطمة الزّهراء الحاجي" بقدر ما هو حديث روحيّ لآثار الجسد وكم هو جميل حين يلتقيان ليكتملا كلاّ من الجسد والرّوح.

حينها وبدون شكّ يستشعر الزّائر تلك الطّاقة النّاشئة في المكان التي عادة ما تكون مصاحبة للعرض الأدائي رغم غيابه إلاّ أنّ السّرّ يكمن هنا في تلك النّقاط اللّونيّة ربّما التي خزّنت شحنات طاقيّة، حسيّة وروحيّة في طيّاتها.

وهنا يُطرح السّؤال عمّا إذا كان مسار الفنّان الذي اتّبعه لمدّة سنوات قادر أن يبقى متّصلا به أو منفصلا عنه حين يقرّر التّوق إلى ما هو أبعد؟ ليست بغية في الإلغاء بقدر ما هي محاولة نبغاء في الخروج من الرّفاهيّة. يكمن النّبوغ في هذه الأعمال الفنيّة في قدرة الفنّانة في كسر تلك النّمطيّة التي كانت تعتمدها في تكوين مسارها الفنيّ الخاصّ بها، فلقد اقترن اسمها بذلك المكعّب أو الصّندوق المغلق، تلك اللّعبة السّحريّة لما تملكه من هالة "هالة الولادة" وحالات المخاض الذي تشهدها فيمرّ عبر حالات مختلفة من مغلق، موصد ساكن فتخبّط وحركة فانفتاح وولادة ولكن ماذا بعد هذه الولادة؟

لقد كان هذا المعرض إجابة عن هذا السّؤال الأخير في إمكانيّة العيش وتعايش اللّوحة بل إنعاشها وإعادة إحياءها وتواصل سلسلة حياتها وهو ما يفرض ضرورة تغيّر المسافات في كلّ مرّة: المسافة التي تفصل بين العمل والفنّان وبين العمل والآخر خاصّة في ظلّ الثنائيّة الفعليّة التي اعتمدتها الفنّانة ما بين فعل "animer" حتّى ولو كان في الماضي وبين فعل "dessiner".

إذن تجعلنا "الحاجّي" وجها لوجه مع لعبة المسافات فتراها تجيد تحريك الزّائر كلاعب شطرنج محنّك في تصرّفه مع بيادقه فتجعله ينتشي انتشاءة نابعة من حرارة المكان فتلك هي ميزة العرض الأدائي بين جذب وانجذاب فتقليص للمسافة بين الفنّان وعمله وكذلك المتلقّي. فأثناء العرض القياسيّ تتقلّص المسافة حيث يتماهى الاثنان وتتحوّل العلاقة إلى علاقة تطابق بين "الأنا" الفنّان و "الآخر" المتقبّل لتكون لعبة تفاعليّة إنشائيّة وكذلك إدراكيّة تتفاعل مع الوجداني والثقافي والمعرفي وكذلك النّفسي وهذا يعتبر محاولة لإزاحة المسافة بين المتلقّي والعمل الفنّي بهدف خلق تجربة جماليّة مشتركة.

أمّا من خلال ما تعرضه الفنّانة على شاشة التّلفاز فهي محاولة لإرجاع تلك المسافة حين يصبح الآخر مشاهدا لهذا الفعل الذي أصبح جزءا من الماضي ليعيد تشكيل ما رآه من خلال هذه المباشراتيّة الافتراضيّة. إذن سيكون المشاهد هنا متأرجحا بين مواجهة الأفعال المحفوظة من ناحية ومن وجود نفسه في تجربة القارئ من ناحية أخرى إذ يواجه الشّاشة لكنّ ذلك ما يؤكّد على "الوجود" المستمرّ من خلال الرّبط بين لحظتين دقيقتين وهما الوقت الذي تمّ استعادته والوقت الخاصّ بالمشاهدة أثناء عمليّة الفهم الجمالي للفيديو وبالتالي إنشاء علاقة متبادلة "تبادل" ومتوازية بين مصطلحين اثنين "الفيديو" و"الأداء".

إنّ ما يحفظ بواسطة الفيديو يوازيه ما يحفظ في تلك العلب البلاستيكيّة الشفّافة محاولة في تحنيط الزّمن والأثر بين الحفظ والاسترجاع. تلك الشفافيّة التي يعكس ما ترشّح "الترشيح" في الذّاكرة وما يبقى فيها لكن ماديّا من خلال هذه الأغراض الشاهدة على لحظات من الزّمن والتي تحمل في طيّاتها كلّ تلك الحرارة النابعة من المكان.

يُترك الأثر في العمل وفي نفس الفنّانة ويُعرض عرضا جديدا بعد ما تفكّكت الجهات الأربع للصّندوق وهو ما يتجسّد في اللّوحات المعلّقة فلوّنت الفنّانة "الأثر" وجسّدت وطبعت فأحيت "الأثر" ليجد الزّائر نفسه منخرطا مرّة أخرى في لعبة المسافات متوغّلا داخل المعلّقات المتدليّة من السّقف فتلغى تلك المسافة بين الآخر والعمل الفنّي، وتلغى كذلك المسافة الفاصلة بين الحاضر والماضي.

ينغمس الآخر في عالم لونيّ ذو لطخات فنيّة تتسّم بالتّلقائيّة في الفعل تارة وتدخّل لونيّ تارة أخرى مع وجود تلك الفتحات التي تعطي هدنة للمتفرّج حتّى يواصل رحلته بين ما هو "ممحًى" وما هو "محيًا" تلك هي الثّنائيّة التي تحكم المعرض تحت شعار "امّحى الطّلل وأحيت الألواح". أفعال كثيرة اعتمدتها الفنّانة فهذه التجربة تجربة البعث وإحياء ما مضى من آثار وتوق إلى ما بعد الولادة الأولى نحو ولادات أخرى جسّدتها بفيض من الألوان والأحاسيس.